إن كل محبي الحكمة (أي الفلاسفة كما تعني الكلمة باليونانية) (1) ، وكذلك كل من كتبوا في اللاهوت عبر التاريخ ، كانوا في الحقيقة ينظرون للإنسان في ذهول إذ يتساءلون عن ما هي مقاصد الله من خلق الإنسان وصورته التي تكون عليها ، و الهدف من الوجود المادي الذي يبدو في ظاهره أن مآله الفناء و الزوال ، وما هو السبب من خلق العالم بهذا الشكل الذي هو معجزة في حد ذاته
لذلك دراسة اللاهوت أو الفلسفة عموماً، هي دراسة: الله و الإنسان و الكون و العلاقة بينهم !!!
و كل هرطقة مرت بها الكنيسة هي في جوهرها تحريف لإعلان الله لنا عن هذه العلاقة ، حيث يكون مقتضاها عدم إمكانية اتحاد لله و الخليقة ومن ثم فقدان عقيدة الخلاص برمتها !!!
وهذه هي النقطة هامة جداً لكي نميز بين: الاختلاف في الرأي في التفسير ، وبين ما اعتبرته الكنيسة هرطقة لشدة خطورته.
وغالباً ما تبدأ الهرطقات بفهم مشوّه لطبيعة المادة وقصد الله منها، فينظر إليها علي أنها شريرة أو نجسة في حد ذاتها ! والنتيجة الحتمية لهذا الفكر المشوه أن الإنسان (حيث أنه يحمل جسداً مادياً) يكون هو الآخر شريراً و نجساً بالطبيعة.
فإن كان الحال هكذا ، فكيف يمكن أن يتجسد الله في هذه النجاسة و الشر وهو القدوس المنزه عن هذه الخليقة التي لا يكمن أن يتعامل معها؟!!
وهذا هو سبب العثرة في التجسد وعدم قبوله من الإنسان عموماً وأيضاً سرّ الرفض الشديد لاتحاد الله بالإنسان ( اتحاد اللاهوت بالناسوت ) !!!
في هذه الفقرة تلخص جذور كل الهرطقات التي حارب ضدها الرسل و الكنيسة ، ومازالت! و أشهر هذه الهرطقات: الغنوصية GNOSTICISM ، و المانوية ، نسبة إلي ماني الفارسي الأصل (القرن الثاني) MANICHAESIM والأريوسية ARIANISM ، و النسطورية NESTORIANISM ، و الأوطاخية نسبة إلي EUTYCHES. "
الغنوصية و المانوية
"ولفهم هذه الهرطقات، يجب إدراك البيئة الفكرية في الإمبراطورية الرومانية، و التي أدت إلي ظهور الهرطقات كمحاولات لتطبيع الفكر المسيحي بالصبغة اليونانية.
بعد أن يأس فلاسفة اليونان من إصلاح الإنسان، وخاصة بعد ضعف إمبراطوريتهم – كما شرح لنا التاريخ –أخذوا يعلِّمون ، كما قال أفلاطون و غيره ، بأن مادة الكون نفسها شريرة و أن الروح – أي روح الإنسان - هي حبيسة في سجن مادي أسمه الجسد و تنتظر خلاصها بأن تنطلق منه لعالم الأرواح وتتركه للهلاك ! (2) أما خلاصها الجزئي فيكون بالمعرفة GNOSIS والجهاد الإنساني ، لذلك رفض الكثيرون أن الإيمان يخلص الإنسان والمحبة هي أساس العلاقة بين الإنسان والله ، وترجموا عمل الله الخلاصي لقضية تصالح عدل مع رحمة ، والتركيز على عمل الإنسان وجهاده بدون نعمة الله وحلول الروح القدس .
أما MANI في القرن الثاني ، فعلًّم أن خلق الكون المادي هو إله شرير غير الإله الخير الذي خلق الوجود الروحي . والروح أيضاً حبيسة المادة و يجب أن تصارعها بالنسك الشديد الصارم. و لا يمكن أن تنمو النفس روحياً إلا بهذا النسك الشديد الصارم.
ولا يمكن أن تنمو النفس روحياً إلا بهذا النسك، الذي يحارب كل رغبات الإنسان المادية ، إذ أنها كلها رغبات شريرة تطيح به إلي الهاوية.
لقد حرّم الغنوصيون و المانويون بعض المأكولات ، مثل اللحم و الخمر علي أنهما نجسان بالطبيعة. وحرموا الزواج، إذ رأوا أن الرغبة الجنسية في أدني ما في الإنسان وأن الشر ينتقل من الآباء إلي أبنائهم من خلال العمل الجنسي!!
وقد عاشر القديس أغسطينوس هؤلاء المانويين عدة سنوات قبل توبته. ويقال في التاريخ أنه قد تأثر بهم؛ ولعل هذا أحد أسباب أنه كان أول من علَّم بوراثة الخطية علي خلاف ما علم به القديس أثناسيوس الرسولي ، وبقية آباء القرون الأربعة الأولي. (3)
وقد امتدت آثار هذه الانحرافات حتى أثرت علي النسك المسيحي كما كتب المتنيح الأنبا بيمن (4) ولعل هذا جعل الكثيرون ممن كتبوا عن الجنس و المرأة في القرون الأولي ، يعبرِّون عن عدم ارتياحهم و تجريمهم لهذا الجانب في الإنسان!
لقد علم أكليمنضس السكندري أن الخطية الجدية كانت في الحقيقة أن آدم وحواء قد مارسا الجنس قبل أن يسمح الله لهما!! أما أغسطينوس فعلم بأن الإنسان في الفردوس كان سيتناسل بدون جماع جنسي! إذ أن هذا لا يمكن أن يتفق مع الطبيعة الفردوسية للإنسان!(5) .
ولكن الكنيسة في تيار التعليم العام لم تتبني هذه الأفكار التي تحط من كيان الإنسان، الذي قال عنه الكتاب انه "حسن جداً" (تك 31:1). لذلك فقد حرمت في القرن الرابع كل من علِّم بنجاسة المادة و الزواج و أكل اللحم و شرب الخمر، وذلك في مجمع Gangra غنقرة (القانون 1، 2 و 4). ليس هذا فقط و لكن الباب ال33 من الدسقولية للرسل ملئ بالتعاليم التي تحرم كل من علِّم بنجاسة الجسد و إفرازاته الطبيعية سواء للمرأة أو الرجل ، أو بنجاسة الزواج و العلاقة الجنسية و إفرازاتها في الزواج أو بعد الولادة (6)
وتُعلم الدسقولية المرأة الطامث و النافس و الزوجين بعد المعاشرة ، بأن أجسادهم نقية و طاهرة و لا تحتاج للحميم لكي تصبح طاهرة للصلاة أو الاقتراب من أعمال الروح القدس ، وأن من يعتبر نفسه نجساً لهذه الأسباب يحكم علي نفسه بفراق الروح القدس منه !!!
وقد أكد القديس أثناسيوس الرسولي هذا التعليم في رسالته إلي الراهب آمون (مجلد 4 –سلسلة آباء نقية – المجموعة الثانية ص 556). أما قانون منع المرأة الطامث و النافس من دخول الكنيسة ، فقد وضعه الأنبا كيرلس الثالث الشهير بإبن لقلق في القرن 13 فقط. وكان البابا ديونيسيوس السكندري (القرن 3) قد أعتنق هذا الرأي أيضاً من قبله. إلا أن هذه الآراء حقيقة تعتبر شخصية حيث أن المجامع المسكونية و تعاليم الرسل لم تقنن هكذا.
ويعلق المتنيح الأنبا بيمن علي هذا القانون في كتاب المسيحية و الجسد ص 31 ، و أيضاً يستشهد بهذا التعليق كتاب الجنس و الزواج، الذي قدم له نيافة الأنبا موسي أسقف الشباب ، يعلق و يقول أن الكنيسة وضعت هذا القانون "كراحة إجبارية للمرأة" حيث أنها تكون عادة متعبة و لا تريد الكنيسة أن تثقل عليها و تتركها لضميرها فقط : هل تذهب للكنيسة أم تستريح بالمنزل في هذه الأوقات. وهو يؤكد مثل الدسقولية و مثل أثناسيوس الرسولي، أنه ليس في جسد الإنسان و إفرازاته أي نجاسة إطلاقاً. ولكن النجاسة تحل بالخطية وحدها حتى ولو كانت بالفكر فقط.
أما إن أراد البعض تفسير وضع هذا القانون علي أنه تطبيق لشريعة ناموس موسي، التي في سفر التثنية ، فترد الدسقولية في الباب 33 بمنتهي الصراحة : أن الرب قد أبطل رباطات الناموس (الموسوي) بالكمال .. وما قد كمله وثبته فهو "الناموس الأول ... الناموس الطبيعي" ذلك الذي قد عاش به الآباء الأولون قبل موسي، ثم أعطاه لموسي بصورة الوصايا العشر.
تلك الرباطات : "ربطهم بهذا: بالذبيحة و الامتناع و التطهير ، أما أنتم أيها المؤمنون ... فقد حلكم من الرباطات وجعلكم أحراراً من العبودية ... و بطًّلها بالكمال و الناموس ثبته" ، " وليس الذي رفعه عنا ناموساً بل ربطات".
وفي النسخة السريانية أيضاً: " والذين لا يطيعونه ليخفف عنهم و يخلصهم من ربط التثنية ، لا يطيعون الله .. فلا تبحثوا عن أي شيء آخر لان التثنية في أبطلت ، وقد ثبت الناموس ... لأنك عندما تحفظ التثنية ، فأنك تشارك في اللعنة التي توجهها لمخلصنا (ملعون من عُلًق علي خشبة) ، وأيضاً فأنك ترث اللعنة".
فالرسل الأطهار، قد حاربوا بشده الغنوصية و التهود علي أنهما كليهما هرطقات. (7)
_________________
(1) كلمة فلسفة أصلها ( فيلو صوفيا ) أي محب الحكمة .
(2) ( لذلك كثيرون ينكرون صلوات القديسين لنا إذ خلعوا الجسد وكل احتياجاته وليس لهم علاقة بعالمنا المادي الذي فيه الأرواح حبيسة الجسد الفاني الذي لا يصلح للحياة مع الله وليس فيه قبول ) .
(3) (أنظر كتاب: كيف نفهم اليوم قصة آدم و حواء – لكوستي بندلي – منشورات النور – لبنان)
(وكتاب: The Early Church by Henry Chadwick., Penguin Books p. 227-228 )
وكتاب: Reason & Faith – by Foster & Marston, Monarch Publication, p. 231)
(4) (المسيحية و الجسد ص 66) (وكما في كتاب: The Early Church) (وكتاب: The Sacrament of Love by P. Evdokimov, SVS Press, N.Y. Page 60 )
(5) (كتاب سر الحب – بول إفدوكيموف اللاهوتي الأرثوذكسي الروسي - Sacrament of Love )
(6) . قد قدم لنا د. وليم سليمان قلادة هذا الكتاب، مع دراسة لاهوتية لنقاء تعاليم الآباء الرسل. وقد أشاد قداسة البابا شنودة الثالث بهذا البحث في مجلة الكرازة (12/7/79).
(7) الله و الإنسان و الكون المادي د. هاني مينا ميخائيل ص 14-19