وإن كان أحد يسمع كلماتي ولا يحفظها فأنا لا أدينه،
لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم.
من رذلني ولم يقبل كلماتي فإن له من يدينه:
الكلمة التي نطقت بها هي تدينه في اليوم الأخير.
الإنجيل حسب يوحنا 12: 47 و 48
أدرت مؤشر المذياع إلى إحدى المحطات الإذاعية فسمعت برنامجاً شائقاً
كان عبارة عن مقابلة أجراها صحفي في الإذاعة مع طلاب وطالبات إحدى الجامعات الكبيرة
في مدينة يبلغ عدد سكانها بالملايين.
وكان الموضوع الذي تطرّق إليه الصحفي هو تحدّيات العصر والطرق السليمة لمجابهتها
وإيجاد الحلول لمشاكل الحياة المستعصية. أنصت بكل انتباه إلى الحوار ولاحظت أن الذين شاركوا في الحوار تطرّقوا للكلام عن مواضيع اقتصادية وسياسية وتاريخية.
ومما لفت انتباهي هو أن أحد الطلاب كان يردد: ليس باستطاعة الإنسان أن يغيّر نفسه أو اتجاه حياته بعد عامه العشرين.
وكان هدف هذا الطالب أن يظهر كون مشكلة الإنسان الأساسية كامنة في صميم حياته
وأنه من واجب الإنسان أن يغيّر أسلوب أو اتجاه حياته وأن يعيش حياة الأنانية.
ولكن هيهات للإنسان أن يصل إلى هذا الهدف النبيل !
لم يقبل الجميع هكذا نظرة تشاؤمية للحياة بل انبرت إحدى الطالبات للرد على الطالب المتشائم
قائلة:
طبعاً يحتاج الإنسان إلى أكثر من حوافز اقتصادية أو ماليّة للقيام بواجباته كما يجب.
وهكذا يجدر به أن يتحلّى بمثل عليا وأن يستنير ضميره من هكذا مثل ليجلبه تحدّيات العصر بصورة فعّالة.
تأملت بعد الانتهاء من سماعي لهذه المقابلة الإذاعية في الموضوعين الأساسيين اللذين ذكرا:
1: مقدرة أو عدم مقدرة الإنسان على تغيير نفسه بعد عامه العشرين.
2: ضرورة التحلّي بمثل عليا وإنارة هذه المثل للضمير الإنساني لتضحي مجابهيه لتحدّيات العصر مجابهة سليمة وبنّاءة.
ومع تقديري لروح الجدّيّة والصراحة التي ظهرت في تلك المقابلة إلا أنه المني أن الحوار جرى في جوّ لم يذكر فيه اسم الله ولا وحيه ولا منهجه الخلاصي لعالمنا هذا.
ولست أريد الظهور بمظهر المنتقد للجيل الطالع عندما أبدي رأيي الصريح بأن نسيان أو تناسي الله لا يساعدنا على حلّ مشاكلنا.
لقد شاطرتكم هذا الاختبار كمقدمة لبحثي في موضوع هام مبني على تعاليم القسم الأخير من الفصل الثاني عشر من الإنجيل حسب يوحنا.
كتب الرسول هذه الكلمات الحزينة عن موقف العديدين من معاصري المسيح من رسالته الخلاصية:
ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات كثيرة فإنهم لم يؤمنوا به. ليتم قول اشعياء النبي: يا رب ؟
من صدّق خبرنا، ولمن أعلنت ذراع الرب ؟
واستطرد يوحنا متابعاً اقتباسه من نبوة اشعياء النبي الذي عاش قبل المسيح بعدة قرون:
من أجل هذا لم يقدروا أن يؤمنوا لأن اشعياء قال أيضاً:
قد أعمى عيونهم وقسّى قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم.
قال اشعياء هذا لأنه رأى مجده وتكلّم عنه.
كان المسيح قد ابتدأ بالمناداة بالإنجيل في عامه الثلاثين وجال في سائر أنحاء البلاد المقدسة معلّماً الناس وصانعاً المعجزات والآيات والعجائب التي شهدت للملأ بأنه كان مرسلاً من الله للقيام بمهمته الخلاصية لصالح بني البشر.
ظهر المسيح بمظهر انسان متواضع ومحب لسائر الناس ولكنه كان في نفس الوقت كلمة الله الأزلي الذي تجسد للقيام بمهمته الفريدة.
ولم تكن غاية أعماله الباهرة التي قام بها هي لإرغام الناس على الإيمان به بل كانت بمثابة أوراق اعتماد سماوية المصدر.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم كلمات الرسول يوحنا:
ومع أنه كان قد صنع آيات كثيرة فإنهم لم يؤمنوا به.
سمع معاصرو المسيح مرسل الله يعلّم كما لم يعلّم أي بشري آخر وشاهدوا معجزات شفاء المرضى وطرد الشياطين وإقامة الموتى.
أبصروا كل هذه الأمور الباهرة ولكنهم لم يؤمنوا !
كيف نفسّر هذا الأمر المحزن ؟
أي منطق كانوا يدينون به عندما أنكروا مصدر رسالة المسيح الخلاصية ؟
لم يقبلوا المسيح لأنهم رفضوا تشخيصه الواقعي لحالتهم الروحية أي كونهم أسرى للخطيّة وعبيداً للشيطان.
انتظروا مسيحاً من طراز آخر، مسيحاً عسكرياً يطرد جحافل الرومان ويعيد إليهم مجد مملكة داود وسليمان. إنهم أحبّوا مجد الناس أكثر من مجد الله.
وبما أن المسيح كان قد وفد عالمنا لتنفيذ مهمته الخلاصية فإنه أنهى تعاليمه للجماهير بهذه الكلمات الصريحة: من آمن بي فليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني. ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني.
كان معاصرو المسيح يفتخرون بأنهم قد استؤمنوا على الوحي الإلهي وكانوا يفتخرون بأنهم يتعبدون للإله الواحد الحقيقي
الذي كان قد دعا ابراهيم واسحاق ويعقوب وكونهم شعباً خاصاً لم ينكر المسيح
هذه الأمور التاريخية ولا الهبات الفريدة التي استلمها بنو اسرائيل ولكنه لفت أنظارهم إلى أن المؤمن بالله يؤمن بالمسيح أيضاً. وبعبارة أخرى،
من رفض الإيمان بالمسيح المخلّص يكون قد رفض الإيمان بالله مرسله.
وإن كانت أرواحهم تتضوّر جوعاً أو تتوق متلهفة للتقرب من الحضرة الإلهية،
أفهمهم المسيح هذه الحقيقة الجوهرية:
ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني.
دلّت هذه الكلمات على أن المسيح يسوع كان ذروة الوحي الإلهي
وإن رفض الإنسان قبول هذا الوحي يكون قد رفض الله وقطع علاقته مع باريه.
وتابع السيد المسيح كلامه مكرّراً ما كان قد ذكره في مناسبات سابقة:
إني جئت نوراً إلى العالم حتى لا يمكث في الظلمة كل من يؤمن بي.
دلّت هذه الكلمات الربّانية بأن تقييم المسيح لحالة الإنسان الروحية كان تقييماً منطبقاً على الواقع البشري الأليم كما يراه الله.
فمنذ أن ثار الإنسان الأول على الله جلب على نفسه
وعلى ذرّيته حالة روحية وأخلاقية محزنة وصفها المسيح بحالة الظلمة أو الظلام.
ومجئ المسيح إلى العالم كان بمثابة بزوغ نور الشمس الوضّاح الذي يطرد أشباح الظلام الروحي المسيطر على كل بشري.
ومن قال في قرارة قلبه بأنه لا يعيش في الظلام وأنه ليس بحاجة إلى مخلّص أو منقذ أو محرّر،
هكذا انسان يبقى ماكثاً في الظلمة. وإن لم يتب إلى الله يبقى في الظلمة إلى الأبد.
عاد المسيح إلى الكلام عن لبّ رسالته الإنقاذية
قائلاً: وإن كان أحد يسمع كلماتي ولا يحفظها فأنا لا أدينه،
لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلّص العالم.
من رذلني ولم يقبل كلماتي فإن له من يدينه:
الكلمة التي نطقت بها هي تدينه في اليوم الأخير.
لأني لم أتكلّم من نفسي ولكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصيّة ماذا أقول وبماذا أتكلّم.
وأنا أعلم أن وصيّته هي حياة أبديّة.
فما أتكلّم به إذن فإنما أتكلّم به هكذا كما قاله لي الآب.
كانت هذه هي الكلمات الأخيرة التي تفوّه بها المسيح قبل إلقاء القبض عليه والمجئ به أمام رئيس الكهنة والوالي الروماني وصلبه وموته وقيامته من بين الأموات.
ولذلك يجدر بنا أن نعيرها الأهمية القصوى.
فنحن لا نقف تجاهها موقفاً حيادياً.
فإما نقبلها ككلمات من جاء من السماء لينقذنا من الخطية أو نرفضها وإذ ذاك نجعلها الأساس الذي سندان عليه في يوم الحساب.
وليست كلمات المسيح هذه كلمات تهديد أو إكراه.
إنها صدرت من الذي أحبنا وبذل نفسه عنا إلى درجة أنه لم يحجم عن الموت عنّا موت الصليب.
من قبل المسيح ورسالته الخلاصية نال الحياة الأبدية.
يعلمنا الإنجيل أن لبّ مشاكلنا هو في قلب الإنسان المظلم والذي هو بحاجة للخلاص.
ومهما كنّا صريحين في حوارنا مع الآخرين ومهما تكلّمنا عن مثل عليا،
فإننا لا نحل مشاكلنا إن تمادينا في رفض الحل الإلهي الذي تمّ منذ نحو ألفي سنة
عندما وفد المسيح عالمنا وأنجز عمله الخلاصي بموته على الصليب وبقيامته من بين الأموات.
وأدعو الله القدير بأن يمنح كل قارئ وقارئة المقدرة على قبول انجيل الخلاص والتمتّع بالحياة الأبدية التي لن ينتزعها منا أي بشريّ أو مخلوق آخر ![center]